الجزيرة وفلسطين- تغطية مهنية تفضح أكاذيب نتنياهو في غزة

فور استيقاظ رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، من تأثير التخدير إثر إجراء جراحي، وعلمه بموافقة الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) على قانون يمنحه سلطة منع وسائل الإعلام الأجنبية التي يعتبرها مضرة بأمن الكيان، وجّه سهامه المسمومة نحو "قناة الجزيرة"، في محاولة يائسة لإسكات صوت الحقيقة.
بكل وقاحة وصلف وعجرفة، أعلن نتنياهو عبر منصة "X": "قناة الجزيرة لن تبث من إسرائيل بعد اليوم... أعتزم التحرك فورًا لوقف نشاطها". هذا الهجوم الشرس على الجزيرة ينمّ عن محاولة بائسة من نتنياهو للهروب من فشله الذريع، وهزائمه المتتالية داخليًا وخارجيًا، وسعيه الحثيث لاستعادة توازنه المفقود في رمال غزة، بعد ستة أشهر عجاف من الحرب الطاحنة دون تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي يُذكر.
إخماد صوت الجزيرة
رئيس حكومة الاحتلال – أو بالأحرى، عصابة الاحتلال – ادعى كذبًا وتضليلًا أن الجزيرة ألحقت ضررًا جسيمًا بأمن إسرائيل، وشاركت بشكل فعلي في "طوفان الأقصى"، وحرضت على جنوده، وأن الوقت قد حان لطردها و إقصائها، في مقابل ذلك، ردت الجزيرة على هذه التصريحات بأنها محض "أكاذيب خطيرة، تبعث على السخرية و الاستهجان".
لا يختلف نتنياهو في استهدافه "إسكات الجزيرة" عن أفدح المجرمين، من قتلة ولصوص وعصابات إجرامية، في سعيهم المحموم لتصفية وقتل شهود جرائمهم النكراء، لإخماد أصواتهم إلى الأبد، حتى لا يفضحوا أفعالهم الشنيعة، ومن ثم تختفي الحقيقة و تندثر. فالجزيرة هي الشاهد الحي الذي ينقل جرائم الاحتلال موثقة، ويتحرى الأخبار من مصادرها الموثوقة، سواء في غزة المحاصرة أو داخل إسرائيل.
عبث لا طائل منه
"منع بث الجزيرة" من الأراضي المحتلة هو قرار أحمق، لا جدوى منه ولا تأثير له، فهو قرار بائس مستوحى من عصور الظلام، حيث كان للمنع والحجب تأثير ما. إنه عبث ولهو فارغ لا معنى له ولا فائدة ترجى منه. فالبشرية تعيش اليوم في عصر السماوات المفتوحة، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي "العابرة للحدود والقارات"، التي تتجاوز كل أشكال الحظر والمنع والحجب... مما منح كل فرد منصة إعلامية خاصة، ينشر من خلالها ما يشاء من أخبار وآراء وتعليقات، دون قيود أو عوائق. فمن يرغب في مشاهدة الجزيرة، سيشاهدها حتمًا... سواء في الأراضي المحتلة أو في أصقاع العالم، رغمًا عن أنف نتنياهو وحكومته وجيشه المهزوم.
منهجية الموضوعية والحياد
منذ عشرينيات القرن الماضي، تنافست مدرستان صحفيتان في تغطية الحروب والنزاعات... أولاهما، تناول الصحفيين وقائع الحرب بـ "موضوعية"، وتعني باختصار أن تكون آراء الصحفي وأحكامه مجردة من الهوى والرغبة والمصلحة، فالموضوعية لصيقة بالأحكام والآراء. من المستحيل – عمليًا – توفر الموضوعية بهذا المعنى في شتى مناحي الحياة، بما فيها المجال "العسكري"، فهي تتأثر حتمًا بمواقف الفرد (أو الصحفي) وأفكاره والقيم التي يؤمن بها... لذا، فمن الطبيعي أن نرى تناقضًا في الآراء والتقييمات حول نفس الوقائع. "الموضوعية"، إذن، تراها المدرسة الثانية، فكرة تكاد تكون ضربًا من الخيال، فالصحفي (في المدرسة الأولى) يهتم بالأسئلة من نوعية: من هو منفذ الفعل، ومتى، ولماذا؟ بينما الصحفي في المدرسة الثانية، يركز على السؤال الأهم: لماذا وقع هذا الفعل؟.
التحيز النزيه
توصل الخبراء والباحثون منذ زمن بعيد إلى أن المدرسة الأولى غالبًا ما تهيمن عليها "نزاهة زائفة"، أما المدرسة الثانية، فهي تتبنى نهج "التحيز الصادق" أو "التحيز النزيه"، وهذا لا يقلل من أهمية الموضوعية، ولا يغني عنها. "قناة الجزيرة" اختارت "التحيز الصادق" في تغطيتها للحرب على غزة... كما في جميع الحروب... لأنها لا تخون جمهورها، وتلتزم بواجبها التنويري الذي يقع على عاتقها. لذلك، لا يمكن لها أن تكون – كما يريد نتنياهو وعصابته – بوقًا للكيان المحتل، كما تفعل العديد من القنوات الأمريكية والأوروبية التي سقطت مهنيًا في هذه الحرب، من خلال الترويج للدعاية والأكاذيب الإسرائيلية.
الشرعية الدولية و رسالة الإعلام
إسرائيل "دولة احتلال" بموجب القانون الدولي... وبالتالي، فإن مقولة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" التي يروج لها الاحتلال، هي أكذوبة وتضليل يبرر بها الكيان جرائمه اليومية بحق الشعب الفلسطيني، من إبادة جماعية وقتل وتدمير وتهجير واعتقال وسرقة للأراضي.
وفقًا للقانون الدولي، مرة أخرى، فإن مقاومة الاحتلال حق مشروع، فما تمارسه المقاومة الفلسطينية من رد فعل على "الاحتلال" وجرائمه، هو حق تكفله القوانين الدولية والمحلية، والأديان السماوية. من هذا المنطلق، تعاملت "الجزيرة" بأعلى درجات المهنية ووفقًا للشرعية الدولية واعتبارات المصداقية. وإذا كان هناك تحيز، فهو "التحيز الصادق" الذي يفرضه عليها الواجب المهني والأخلاقي والوظيفة الإعلامية النبيلة.
الرأي والرأي المخالف
هنا، لا بد من التذكير بالشعار الذي ترفعه الجزيرة وتطبقه على أرض الواقع، والذي أكسبها مصداقية فائقة... يتصدر هذا الشعار شاشاتها على الدوام، وهو "الرأي والرأي الآخر". والدليل على ذلك أنها تبث ما يعلنه الإعلام العسكري للمقاومة، مقابل نقل المؤتمرات الصحفية للمتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
كما أنها تعرض في نشراتها الإخبارية وتحليلاتها تصريحات قادة الاحتلال والساسة الفلسطينيين وحكومة غزة، وتتحرى الأخبار من مصادرها في طرفي النزاع. بالإضافة إلى ذلك، تستضيف عسكريين مخضرمين مثل اللواء فايز الدويري والعميد إلياس حنا، وخبراء في السياسة من مختلف الاتجاهات، بمن فيهم أمريكيون داعمون للاحتلال... على الرغم من أن هذا يجعلها عرضة للانتقادات من قبل بعض المشاهدين العرب المحبين لها.
كما تبث "الجزيرة" مباشرة من ميادين القتال، وتنقل المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال، والدمار الذي يخلفه وراءه. "الجزيرة" في هذه الحالة لا تلفق ولا تختلق مقاطع الفيديو، وهذا هو الذي يؤرق نتنياهو... الذي اعتاد أن يرى رواية دولته تتلقى "تحيزًا زائفًا" من وسائل الإعلام الغربية بأكملها – إلا فيما ندر – ترويجًا لأكاذيب الاحتلال، الذي يقتل المدنيين الأبرياء، ثم يدعي أنهم "مخربون خطرون".
الحقيقة والمنتصر في الحرب
ختامًا، قال السيناتور الأمريكي، هيرمان جونسون، عقب الحرب العالمية الأولى (1914-1918): "الحقيقة هي أول ضحايا الحرب"، بمعنى اغتيال الحقيقة في النزاعات والحروب، تحت وطأة القصف وأزيز الرصاص وأصوات المدافع. كما يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، جوزيف ناي (78 عامًا)، أن "من يكسب الحرب هو من يربح قصته في الإعلام".
لقد استطاعت "الجزيرة" أن تسجل جزءًا كبيرًا من الحقيقة في حرب غزة... كما فعلت في حربي العراق وأفغانستان وغيرهما من الصراعات. لم ينتصر الاحتلال في هذه الحرب (حتى الآن)... بل خسرت قصته إعلاميًا... بينما كسبت "الرواية الفلسطينية"، التي لعبت "قناة الجزيرة" الدور الأكبر في نقلها، من خلال التوثيق والتحليل والخبر والرأي الآخر. هذا ما أصاب نتنياهو بالهستيريا، ودفعه إلى شن حربه الشرسة على "الجزيرة"... لكنها حرب خاسرة لنتنياهو بلا شك، فالصحافة المهنية الحرة تنتصر دائمًا.
